الاستثمارات العربية في أوروبا تحتاج إلى حماية
قال الخبير الاقتصادي العربي طلال أبو غزالة إن العالم يشهد تغيراً جذرياً على الصعيد الاقتصادي من حيث موقع القوى الأساسية التي تقود الاقتصاد العالمي مع تحول الثروة من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق في ظل الأزمات الحالية التي تضرب أوروبا وأمريكا، موضحاً أن نسب العجز والدين العام في بعض هذه الدول تجعلها عاجزة عن تقديم الخدمات بالوتيرة المطلوبة لمواطنيها وهكذا تفلس الدول عادة بخلاف الشركات التي تعلن إفلاسها من خلال تصفية أصولها .
وشدد على ضرورة فهم المتغيرات الاقتصادية الراهنة في العالم لرؤية الأساس الذي تتحرك من خلاله التطورات السياسية، حيث نتجه نحو تصدر الدول ذات الكثافة السكانية لأداء الأدوار الأساسية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي . واعتبر أن ما تشهده الدول العربية حالياً هي نهضة حقيقية وبداية لمرحلة جديدة في تاريخها، مشدداً على أهمية هذه الأحداث في التحرك نحو تحرير اقتصادي فعلي عبر إنهاء هيمنة الفساد على النمو في الدول التي تشهد هذه الأحداث .
كيف تتطور الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم؟
ما نشهده الآن هو تحول الأزمة المالية العالمية إلى أزمة اقتصادية كما توقعنا منذ البداية وانتقالها من القطاع الخاص إلى الحكومات في الاقتصادات الغربية المتقدمة التي تعاني مشكلتين رئيستين هما العجز في الموازنة الذي يعد من أهم المخاطر على الدول عندما تصبح الإيرادات أقل من المصروفات وتغدو الحكومات مضطرة إما إلى تقليص الخدمات التي تقدمها للمجتمع لخفض النفقات أو أن تلجأ إلى تمويل العجز بالاستدانة، وهنا تدخل في المشكلة الثانية وهي الدين العام الذي يعمق العجز نتيجة لنفقات خدمة الدين، وقد كانت المعايير العالمية تحدد نسبة 3% من الناتج القومي كحد أقصى لعجز الموازنة و60% من الناتج القومي كسقف للدين العام، والواقع أن كل الدول الغربية قد تجاوزت الآن هذه النسب بمعدلات متفاوتة، فبينما يتحدث العالم عن اليونان التي يصل العجز فيها إلى 11% نجد أن العجز تخطى هذه النسبة بكثير في الدول الأخرى، حيث يصل إلى 23% في إيطاليا، و32% في ايرلندا، و11% في بريطانيا، و8% في فرنسا، و55% في السويد، أما الدين العام فيبلغ 94% في بريطانيا، وتخطى 100% في فرنسا، ووصل إلى 130% في إيطاليا، وتجاوز 100% في الولايات المتحدة، وبلغ 225% في اليابان، و85% في ألمانيا، والواقع أن الدولة المفلسة هي الدولة التي تعجز جزئياً أو كلياً عن تقديم الخدمات لمواطنيها نتيجة لتصاعد العجز والدين العام خلافاً للشركات عندما تفلس تصفي أصولها، ولذلك فإن أخطر ما سنشهده في الأزمة الاقتصادية هو الأزمات الاجتماعية التي تنشأ عنها وتؤدي لانتفاضات ضد تقليص الخدمات وهذا ما سيحدث في العام المقبل من تحركات احتجاجية على نطاق واسع ومقلق نتيجة لدخول الدول الأوروبية في حالة التقشف كما رأينا في فرنسا مع تخفيض الضمان وسن التقاعد، بينما بدأت بريطانيا بتقليص برامج دعم التعليم، أما أمريكا فبإمكانها أن تخفف من هذه الأزمة لديها لأنها تملك العملة العالمية وتستطيع من خلال طباعتها أن تحصل على وضع فريد يجعل المدين أقوى من الدائن عبر التحكم بالمطبوع من العملة والسيولة وسعر التحويل، إضافة إلى القوة السياسية، ولو تحدثنا عن العملات بنظرة تقنية فالدولار في وضع أسوأ من اليورو، لكن أزمة اليورو تظهر بوضوح لأنه لمجموعة دول بينها خلافات عميقة على صعيد إدارة الأزمة، فألمانيا باعتبارها الاقتصاد الأقوى يطلب منها إنقاذ الاقتصادات الضعيفة مثل اليونان وايرلندا والبرتغال وإسبانيا، لكن المعاناة الأكبر ستأتي من الاقتصادات الكبيرة مثل إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، علماً أن إيطاليا هي المرشحة الأولى لتفجر الأزمة، لكن المشكلة تتفاقم في أوروبا بفعل الديون المتبادلة بين دولها، فإيطاليا مدينة لفرنسا بنصف تريليون يورو تشكل 20% من الناتج القومي الفرنسي وديونها لدول أخرى تصل إلى تريليون ونصف تريليون دولار، وإسبانيا مدينة بأكثر من تريليون يورو .
كيف تنعكس هذه الأوضاع على الدول الأخرى وخصوصاً في منطقتنا؟
عندما تنزف الدول الكبيرة اقتصادياً تصبح أكثر شراسة في التعامل مع الآخرين وتبدأ تحملهم المسؤولية عن وضعها الاقتصادي كما سمعنا أوباما يقول إن انتعاش الاقتصاد الأمريكي يعتمد على ازدهار الصين وآسيا، وطبعاً تتقلص المساعدات القادمة منها، وهذا ما نشهده الآن حيث أصبحت صناديق المساعدات من الصين والهند، نحن أمام تغيير جوهري في خريطة القوى العظمى، فالاتحاد الأوروبي متجه نحو التفكك، والاندماج الأوروبي الأمريكي لن يحصل وهناك اتجاه عام نحو الحمائية بدلاً من الليبرالية وخطة أوباما لتنشيط الاقتصاد الأمريكي تقول إنه لن يسمح للشركات والسلع من الخارج أن تستفيد من هذا الدعم وهذه هي الحمائية التي تنادي بها بيانات القمم الأوروبية عندما تؤكد أن من حق كافة دول الاتحاد أن تتخذ الإجراءات التي تحميها من الأزمة، ويجب أن ننتبه إلى هذا الاتجاه العالمي ونتصرف على أساسه، فنحن بحاجة إلى الحماية من أزمات الدول المتقدمة وقد خسرنا كثيراً من ثرواتنا السيادية واستثماراتنا الخاصة وهبوط العملات وانهيار البورصات .
ينبغي أن ندرك أن الثروة تنتقل من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق ونحن في منتصف الطريق يمكننا من خلال الانفتاح على آسيا وإفريقيا أن نحد من تأثرنا بأزمة الدول الغربية المتقدمة، وبرأيي أننا بحاجة الآن إلى منظمة على غرار أوبك لحماية استثماراتنا السيادية في هذه الدول، كانوا يطالبون بنظام سلوك لاستثماراتنا قبل الأزمة ونحن يجب أن نطالب الآن بحماية هذه الاستثمارات، فالأموال السيادية لكل الدول التي تمتلك هذه الأموال ستصل في عام 2020 إلى 20 تريليون دولار واستثمارات القطاع الخاص أكثر من هذا ويفترض أن يتم التنسيق بين هذه الدول على غرار الوضع في أوبك، خصوصاً أننا نسمع كلاماً من أصوات نافذة في الغرب مثل كيسنجر الذي يعتبر أن ارتفاع سعر النفط أدى إلى أكبر عملية تحول للثروة في التاريخ ويرى أن أوبك تبتز الصناعات في الدول المتقدمة .
يجب ألا نكتفي برؤية الأحداث السياسية دون معرفة ما يحصل اقتصادياً على الصعيد العالمي كأساس تتحرك من خلاله تفاعلات السياسة، هناك تحول جذري في العلاقات والتكتلات، وكذلك في القيادة الاقتصادية للعالم، فلو أرادت الآن الصين لأصبحت قائدة العالم، لكن الفلسفة الصينية تقوم على أساس انتظار اللحظة المناسبة التي تجعلها قادرة على الاحتفاظ بموقع القيادة عندما تحصل عليه، ولذلك يعتمدون أسلوب الانتقال التدريجي الذي جعلهم يطلبون شرطاً واحداً عند انضمامهم لمنظمة التجارة العالمية وهو أن يقرروا هم الفترة الزمنية اللازمة لتحرير كل قطاع من قطاعات التجارة بعد أن أدى التحرير المفاجئ في روسيا إلى انهيار اقتصادها، كما أن الصين تعمل بصمت ولا تريد أن تعطي هالة إعلامية لإنجازاتها كما يفعل الغرب، ولذلك علينا نحن أن نبحث ونعرف ما يجري لديهم، لأن ذلك يحدد مسار التطورات القادمة التي يفترض أن نعرف موقعنا فيها، والأمر لا يقتصر على الصين فقط، بل إن هناك بعض مراكز الدراسات التي تركز الآن على الهند وتعتبر أن الاقتصاد الهندي قادر على تصدر العالم مستقبلاً، بينما ترشح دراسات أخرى الاقتصاد الصيني لهذا الموقع .
وفي إطار التحرك لفهم هذه المتغيرات سيتم تأسيس اتحاد لمراكز الأبحاث الاستراتيجية في العالم بما فيها المراكز الصينية، وقد طلب مني أن أكون رئيساً لهذا الاتحاد حيث سأسعى لنقل ما يجري في العالم إلى الوطن العربي، لأن لدينا تقصيراً في هذا الجانب يتمثل بعدم إدراك دور الاقتصاد في تحديد مسار المتغيرات والتطورات السياسية .
إلى أي مدى سيسهم الربيع العربي في تحسين موقعنا على الخريطة العالمية؟
التغيير الذي نراه الآن في العالم العربي هو نهضة شاملة حتى لو أخذت أحداثها بعض السنوات من عدم الاستقرار فهي تؤسس لمرحلة نهوض تاريخي شامل في المنطقة مستقبلاً، وعلينا أن نقرأ هذه التطورات في إطار فهمنا لموقع الدول الكبيرة من حيث عدد السكان في القيام بالدور الأهم اقتصادياً وسياسياً على صعيد المتغيرات التي تحدث في العالم الآن، حيث تؤكد دراسات صندوق النقد الدولي أن مستقبل العالم تقرره الدول الأكبر سكانياً وفي منطقتنا هناك تركيز الآن على الدور التركي وهو بالتأكيد دور مهم، لكن أن ننتبه بشكل خاص إلى الدور الذي تستطيع مصر أن تقوم به في المنطقة بعد أن تحررت من هيمنة الفساد على اقتصادها ما سيؤدي إلى تحرير اقتصادي حقيقي ينتج عنه سوق تنافسية تجعل قدرات الاقتصاد المصري تنطلق وتسمح لمصر بأداء دورها التاريخي في استنهاض العالم العربي بعد أن تتخلص من بعض القيود التي كبلت اقتصادها في المرحلة الماضية مثل اتفاقية بيع الغاز إلى “إسرائيل” بأسعار مجحفة، وهنا ينبغي التأكيد أن التعديل هو
من طبيعة الاتفاقيات الدولية خلافاً لما يزعم الكيان الصهيوني، كل هذه التطورات ستجعلنا أمام مسار تاريخي جديد في العالم العربي عموماً .
وعلى صعيد دول مجلس التعاون الخليجي ينبغي أن يسير نحو مزيد من التوحد لكي يستطيع أن يعزز دوره على الصعيد العالمي لكي يصبح شريكاً ونداً للقوى العالمية في مسار دولي لا يعترف إلا بالدول ذات الإمكانات الكبيرة .
http://www.alkhaleej.ae/portal/b09b4f91-4257-49cf-9800-2838c4bffd33.aspx