«التعليم من أجل العَيش» لأن الشهادة وحدها لا تشقّ طريقاً آمنة إلى سوق العمل

رشا الأطرش *

الثلاثاء ١٣ نوفمبر ٢٠١٢
في خضم الأزمات الاقتصادية التي لا تكاد توفّر بقعة في العالم، تزداد التحديات حدّة. وفي هذا الكتاب، الثاني من إصدارات «مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم» (وايز) بعنوان «التعليم من أجل العَيش: ابتكارات جذرية لمناهج توائم العمل»، يسلَّط الضوء على تجارب ملهمة في خلق روابط جديدة بين التعليم وسوق العمل. فذلك بات حاجة فعلية، وليس ترفاً. في كل مكان، غالباً ما تفشل النُّظُم التعليمية في إعداد الشباب، في شكل كافٍ، لاقتصاد معولم تقوده ثورة التكنولوجيا. ويُحرم الملايين من فرص اكتساب المهارات الأساسية لإعالة أنفسهم وعائلاتهم. إضافة إلى أن المتخصصين يشددون على التعليم كعملية مستمرة، مدى الحياة، ولا تنحصر في صفوف الدراسة.
 
هذا العام، اكتشف معدّو الكتاب أن أشخاصاً مبدعين حول العالم ولّفوا وطبّقوا حلولاً ناجعة لهذه المعضلة. وهنا قصص، إنسانية قبل أن تكون ذات دلالة منهجية، ترسم صورة مدهشة للجهود المبذولة من أجل تحقيق تناغم بين الأفراد، والعمل والمجتمع. يسعى هذا الكتاب إلى إبراز العناصر المشتركة بين الروايات - التجارب، بهدف تشجيع القائمين على التعليم، في كل مكان، على تبنّي تلك الخلاصات - الحلول وتكييفها مع أوضاع بلدانهم. ويستهلّ بتحليل عام لمتغيرات العمل والقوى العاملة في العالم، في الخصائص كما المتطلبات والطموحات، ثم ينتقل إلى شرح طريقة العمل ضمن 15 برنامجاً تعليمياً، نبع كل منها من حاجات وأماكن أفكار مختلفة، لتبيان كيف أن التعليم يجب أن يتغيّر.
 

اقتصاد المعرفة
 الآن، لا تبدو الاقتصادات النامية قادرة على المواكبة، ومثلها الاقتصادات المتقدّمة. وبحسب دراسة لمعهد ماكينزي العالمي، نُشرت هذا العام، فإن العالم عام 2020 سيشهد فائضاً من 95 مليون عامل بمهارات محدودة، و40 مليون وظيفة شاغرة لخريجي جامعات لملئها. لكن هذا ليس مجرد سوء مواءمة بين العرض والطلب. فمجيدو استخدام التكنولوجيا عليهم توجيه اقتصادات المعرفة... من الآن. وها هي رئيسة مؤسسة «إكسون موبيل» للغاز والنفط، سوزان ماك كارون، تؤكد أنه «على رغم ازدياد الطلب على محترفين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، فإن عدد الطلاب الذين يختارون تلك التخصصات في تناقص»، مضيفة إن من أولويات مؤسستها «دعم الجهود لتحسين التعليم في تلك المجالات من خلال حضّ الطلاب والجسم الأكاديمي على خوض غمار مثل هذه المواضيع».

 وإذ كانت اقتصادات العالم تزداد ارتباطاً بعضها ببعض في نواح عدة، فإن العوامل البيئية لطالما كانت رزمة كونية قد تستحيل تجزئتها. ومن الواضح إن تعاون سكّان الكوكب في مواجهة المشاكل البيئية المعقّدة، على غرار خفض انبعاثات الكربون، بات حيوياً لمستقبلنا على هذه الأرض. ففي بعض المناطق، تنهار اقتصادات بفعل انقلابات الطبيعة. الفيضانات في باكستان وبنغلادش، والجفاف في الساحل، عوامل قد تحيل الإنتاج ضرباً من الأحلام. ولا شك في أن البلدان النامية التي تزيدها الجغرافيا والبنية التحتية البدائية هشاشةً، هي التي ستدفع الثمن الأكبر.
 
بحسب منظمة العمل الدولية، يعاني 75 مليون شاب وشابة حول العالم من البطالة، بزيادة 4 ملايين شخص عن أرقام العام 2007، ويتوقع أن يستمر المعدّل هذا حتى عام 2016. وكلما طال أمد البطالة، يقول محللون، امتدّت المشاكل الناتجة منها لفترات أطول وأقسى. والشباب ليسوا المتضررين الوحيدين، بل أيضاً العاملون المحدودو المهارات. إذ تفيد إحصاءات وزارة العمل الأميركية مثلاً إلى أنه، فيما لا تتجاوز نسبة البطالة في مجالات الإدارة والأعمال المالية 3.8 في المئة، فإنها ترتفع إلى 10 - 13 في المئة في قطاعات البناء والنقل والحفر. أما الفئة الأكبر سناً المحتفظة بوظائفها، فتتمكن من ذلك على أسس مختلفة. صحيح أن هؤلاء يضمنون استمرارية عملهم، لكن بعقود موقتة، لأن الشركات تصبو إلى مرونة في قواها العاملة. وتحذر منظمة العمل من تفكك المنظومة القانونية الحامية لاستمرارية العمل في غالبية البلدان، كما أن 40 في المئة من عمّال البلدان النامية ينتمون إلى اقتصاد موازٍ. هكذا، يبدو التأرجح الوظيفي هو «الطبيعي» هذه الأيام، بدلاً من مقولة «وظيفة مدى الحياة».
 
وللديموغرافيا أيضاً تأثير في العرض والطلب المهنيين. اليافعون هم الأكثر في البلدان النامية بسبب ارتفاع نسب الخصوبة ومعدلات الوفيات في عمر مبكر نسبياً، لذلك يشكّل الشباب في البلدان الإفريقية المحدودة الدخل نحو 20 في المئة من السكان. والوضع معكوس في العديد من بلدان الغرب، حيث يتوقّع أن يرتفع عدد الأشخاص الذين تجاوزوا الستين من العمر بمعدل ثلاثة أضعاف في أقل من 50 سنة. وفي سنغافورة، ستزيد نسبة الأشخاص ما فوق الخمسين من العمر، من 23 في المئة من السكان إلى 50 في المئة خلال السنوات الـ25 المقبلة. لذا، نقع على خطط متباينة لاستيعاب اليافعين العاطلين من العمل في الأردن مثلاً، في مقابل رفع سن التقاعد في اليابان.
 
طلال أبو غزالة، الذي يقود مؤسسة عالمية ضخمة وسيطلق جامعة افتراضية نوعية قريباً، لا يرى مفارقة في فكرة أن التعليم بات ضرورياً ومطلوباً أكثر من أي وقت مضى، فيما الشهادات الجامعية قد لا تؤمن مدخلاً آمناً إلى سوق العمل: «لسنا أمام مشكلة بطالة، بل سوء مواءمة بين طالبي العمل وسوقه... أعطني مليون شخص اليوم يعملون في اقتصادات المعرفة: لا يوجد. لكن هؤلاء مطلوبون، وفي المستقبل ستتركّز الثروات في المعرفة، بعد النفط».
 
 
في بوركينا فاسو... مخترعون
 
الهتاف يصمّ الآذان. الجميع وقوفاً. يلوح الفائزون بجائزة «أفضل مشروع طالبي» للحضور بثقة فائقة لم تحجب الخجل في ابتساماتهم. هي الدورة السابعة لمهرجان «أيام المشاريع» وما زالت مؤسسة 2iE في بوركينا فاسو تحقق فيه نجاحات باهرة، إذ يدرك مديرها العام بول غينيز أن «المهندسين لا يكفون، نحتاج إلى أشخاص قادرين على اختراع أشياء جديدة، لنبني مجتمعاً جديداً».
 
يأتي المشاركون من أنحاء إفريقيا: مالي، الكونغو، الكاميرون، الغابون، النيجر، توغو، بل ومن فرنسا وكندا أيضاً. وتحولت 2iE إلى شركة تضم القطاعين العام والخاص، لتقدّم مناهج هندسية متخصصة في المياه والصرف الصحي والبيئة، وشهاداتها معترف بها عالمياً، إضافة إلى أن القارة الإفريقية تحتاج إلى تلك المهارات بشدة. «يسألوننا دائماً: ماذا تفعلون لو كنتم في الموقع؟»، يقول أحد الطلاب، ليوضح أن التركيز هو على ظروف العمل الواقعية، الأمر الذي تسهّله الشراكة مع عدد من أبرز المؤسسات الأكاديمية حول العالم، إضافة إلى التمويل الآتي من شركات مهتمة باختراعات قابلة للتسويق في قطاع الهيدرولوجيا وإدارة الموارد المائية.
 
هكذا، تنافس الطلاب في «أيام المشاريع» باختراعات من نوع مادة عازلة مصنوعة من نفايات البلاستيك، وبلوكات لرصف الأرضيات من قشور النخيل، ونظام تصفية للمياه قوامه الرمال المتوافرة بكثرة في الساحل. والحال، إن 95 في المئة من خريجي 2iE يجدون عملاً في خلال ستة أشهر من إنهاء الدراسة، والخمسة في المئة الباقية تُوظّف في غضون سنة، ونسبة 98 في المئة من إجمالي الخريجين تبقى في إفريقيا.
 
 
 
فنلندا في حاجة إلى تقنيين
 
تفوق النظام التعليمي في فنلندا تكراراً بحسب معايير «البرنامج العالمي لتقويم الطلاب»، الأمر الذي يثير فضول الكثيرين في شأن تلك الوصفة السحرية. ويبدو أن الأولوية في هذا البلد الآن هي للمساواة في إنتاج التميّز. واللافت إن معدلات البطالة في فنلندا هي الأدنى أوروبياً، بموازاة المستوى الأعلى للمعيشة في ظل دولة راعية تقدّم أجود الخدمات. وفي فنلندا، يختار الطلاب في سن 16 سنة، والذين أنهوا تعليمهم الأساسي، بين الالتحاق بالتعليم الأكاديمي العالي، والمعاهد العليا للتدريب المهني. وفي مجتمع متاح فيه التعليم الجيد، تشتدّ المنافسة في المهارات المهنية، ما يجعل معاهد التدريب المهني أكثر شعبية.
 
أسس نائب عمدة التعليم في مدينة إسبو، سامبو سوهيكو، مؤسسة «أومنيا» للتعليم والتدريب المهني. ولعل مرونة النظام التعليمي الفنلندي جعلت لهذه المؤسسة نكهة ومنفعة إضافيتين. فالدراسة المهنية العليا، ومدتها 3 سنوات، تتضمن منهجاً وطنياً (رياضيات، فيزياء، كيمياء، علوم اجتماعية، لغات أجنبية) تؤهّل خريجيها للالتحاق بأي جامعة يختارون - أكاديمية كانت أو تطبيقية، علماً أن تمتّع الطلاب بالقدرات التطبيقية أساسي في التوظيف. ومن الأفكار التي طبّقتها «أومنيا»، إعادة تشكيل برنامج «إدارة الأعمال» للطلاب من سن 16 إلى 19 سنة، وهم الفئة الأكثر تسرّباً من المؤسسة بمعدل 60 في المئة، بحيث يعتمد أكثر فأكثر على التعليم من خلال العمل. إضافة إلى استخدام التكنولوجيا المتحركة، مثل «آي بود تاتش» و»آي باد» في الكثير من المهمات، بما فيها التقويم. حتى الأساتذة تعلّموا استخدام تقنيات «غيمة المعلومات» (خزان معلومات فردي على شبكة الإنترنت يمكن دخوله من أي كومبيوتر في أي مكان بمجرد الاتصال بالشبكة الدولية)، بل واعتادوا استعمال هواتفهم الخليوية في أشكال جديدة.
 
عملياً، تعيد «أومنيا» إنتاج نظام «تلميذ المهنة/الكار» على غرار ما كان معمولاً به في القرون الوسطى، عندما كان الأهل يُلحقون أبناءهم بدكّان حرفي ما، يساعده بلا مقابل مالي، لكنه يتعلّم صنعة. هكذا، يتعلّم الطلاب، ويحصّلون مهارات وعلامات، فيما يشغلون وظائف حقيقية. وكل ما يكتسبونه من وحي سوق العمل الواقعية.
 
والأمر لا يقتصر على الطلاب اليافعين. آلان فيلميونين، وهو مهندس اتصالات وموظف حالياً في شركة «كانون» كمطوّر للمنتجات، حصّل تدريبه العملي في سن 55 سنة، والتحق ببرنامج «أومنيا» لينال ديبلوم الطباعة الرقمية. استغرق نيل الديبلوم سنتين ونصف السنة، ظل خلالها موظفاً في «كانون»، لكن البرنامج تكفّل بالنفقات التعليمية. فهل استحقت النتيجة تعبه، لا سيما في تلك المرحل المتقدّمة من حياته المهنية؟ «بكل تأكيد»، يقول فيلميونين، «الكلية اعترفت بخبرتي، وتكامل ذلك مع النقاش واستخدام الميديا والفيديو، التعليم تشابك مع عملي الفعلي، فيما تقدّر إدارة الشركة قدامى الموظفين ذوي المعارف العصرية».
 
 
 
شباب الأردن الفقراء
 
يقطن أحمد سالم قرب مدينة معان جنوب الأردن، حيث الثقافة بدوية الطابع. فرص العمل محدودة، وكذلك الترفيه، في مقابل الكثير من المشاكل الصحية. وفي بلد يعاني بطالة مزمنة، الشباب هم الأكثر تضرراً، إذ تفيد الأرقام بأن نسبة العاطلين بين الأشخاص دون 24 سنة من العمر، نحو 28 في المئة، لكن كثيرين يعتقدون أنها أعلى من ذلك بكثير. وبحسب تقارير البنك الدولي، تبدو نسب البطالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في صفوف حاملي الشهادات العليا، إلى ازدياد.
 
وفي معان الأردنية، وقعت أعمال شغب وسرقة، بأثر من الربيع العربي، وسرى خوف من انتفاضة عامة. أما أحمد، فمنذ أكثر من سنة وهو يبحث عن عمل... إلى أن انخرط في «مؤسسة الأردن للتعليم المهني»، وهي جمعية مدعومة من مبادرة «التعليم من أجل العمل» ومقرها واشنطن، تهدف إلى الحد من البطالة بين الأردنيين. وأحمد يأتي من عائلة مكونة من 11 فرداً، اثنان منهم فقط يعملان: «كنت سلبياً وغاضباً طوال الوقت، ثم تعلمتُ مهارات ما كنت أعلم بوجودها، أصبحت أقل غضباً، وأستخدم ما تعلمته في حل النزاعات مع الآخرين أيضاً، مجتمعي وعائلتي يتساءلان: ماذا حصل؟»
 
ما حصل إن المؤسسة بدأت بستين شاباً، استأجرت هنغاراً في المنطقة الصناعية واشترت أدوات تلحيم. دفعت رواتب وبدل نقل وأمّنت خدمات ضمان اجتماعي، إضافة إلى فرص عمل في مشاريع عدة في حال نجح المتدرب. في المقابل، كان على المتدربين أن يتعلموا كيف يكونون موظفين ويعملون مع الآخرين، إضافة إلى المهارات التقنية في استخدام الأدوات. والكثير من هؤلاء الشباب لم يتخطوا الصف الابتدائي السادس بسبب الفقر، لكنهم يتعلمون كيف يكونون قوى عاملة. يتعلمون احترام بعضهم بعضاً، إدارة الوقت، والاستماع بعقل وقلب منفتحين، إلى جانب التقنيات المهنية. وهذا ما تؤكده أبحاث منظمة العمل الدولية، إذ يقول الخبير رايموند توريس: «على الناس اكتساب المهارات الإنسانية لتغيير أساليب العمل والروتين، إضافة إلى إمكان العمل معاً والتعاون، ثمة الكثير من برامج التدريب التقني، لكن قلما نجد تدريباً للعقل يصب في تفاعل اجتماعي أنجع».
 
لا شك في أن التكنولوجيا غيّرت أساليبنا في التواصل، في الإنتاج، وحتى في التفكير. لعلنا الآن نعيش مرحلة انتقالية بين اقتصاد الاستثمار في الأصول المادية (مبانٍ وآليات وماكينات)، وآخر لا يقوم من دون أصول قد تبدو أقل بديهية (برامج معلوماتية، ماركات مسجّلة، معرفة ورأس مال بشري). إلا أن الخلاصة تتبلور في ثروة هي نتيجة لجمع أجهزة كومبيوتر متطورة مع عقول تضاهيها تطوراً.
 
 
 
* صحافية من أسرة «الحياة»


http://alhayat.com/Details/452215

البرنامج الثقافي

تنظيم الأنشطة الثقافية هو وسيلة فعالة لتوسيع نفوذ معاهد كونفوشيوس

برنامج زيارة الصين

مخيم معهد كونفوشيوس صيف / شتاء هو اللغة الصينية السنوية والثقافة برنامج تعاني برعاية معهد كونفوشيوس

اللغة الصينية للناشئين

تأسس معهد طلال أبوغزاله كونفوشيوس في شهر أيلول من العام 2008 بهدف التعريف باللغة والثقافة الصينية